Featuredمقالات

اقتناء الحب من متاجر البيع على الإنترنت

بقلم الجزائري سعيد خطيبي

أطالع روايات شبان من الجزائر، تقل أعمارهم عن الثلاثين، واستغرب غياب أو تغييب ثيمة الحب. يحكون عن الفساد الذي عم البلاد، عن المافيا التي تعددت أشكالها ومرادفاتها، عن صناعة الخوف وخشيتهم من المقبل، عن مدنهم وعن همومهم الذاتية، بالمختصر يحكون عن كل شيء، عما تراه أعينهم، أو تسمعه آذانهم، أو يتخيلونه واقعاً، لكن الحب يكاد يكون الغائب الأكبر، لا يرون شيئا ذا قيمة عن علاقة شخصين من الجنس عينه، أو من جنسين مختلفين، في الغالب ترد صورة المرأة ـ في كتابات الرجال منهم ـ بوصفها غرضا، أو حجة في إظهار عضلات الكتابة الأيروتيكية، دون مقدمات، يوكل إليها لعب دور في إشباع لذة آخر، وسرعان ما تختفي.

سعيد خطيبي – روائي جزائري

لست بصدد مناقشة القيم الفنية في روايات هذا الجيل الشاب، لكنني معني أكثر بمحاولة رصد هواجسهم، كيف ينظرون إلى الحياة وما هي مشاغلهم. يبدو أنهم يعيشون في قلق، في مساءلة عن الوجود وعن الموت، في مناقشة الأخلاق التي رسخها في عقولهم كبار السن، لكنهم غير معنيين بسرد مشقة العيش في تجربة الحب. قد نظن أن الأمر يتعلق بضعف في قراءاتهم وقلة اطلاعهم على أدب الآخرين، لكن البعض منهم يمارس القراءة كفعل يومي، كما إن روايات الحب هي أكثر شيء يُصادف مراهقاً في بداياته الأدبية، سواء كانت روايات حب محلية أو عربية أو أجنبية مترجمة، بالإضافة إلى أن السينما، التي باتت متاحة بفضل مواقع القرصنة، لا تخلو من موضوعات كهذه. بالتالي فإن التعليل الأقرب إلى الحقيقة هو أن الكاتب الشاب لم يعش الحب.. لم يعرف رعشاته ولا أرقه.. هو شاب يشارك من هم في سنه في التعامل مع الحب باعتباره تجربة متخيلة، لا وجود لها على أرض الواقع.

لقد صار الحب ـ منذ سنين قليلة ـ مغامرة افتراضية فعلاً، مع سطوة مواقع التعارف ثم تطبيقات تلك المواقع على الموبايل، وإزاء ما توفره السوشيال ميديا. غاب عنصر المفاجأة، كل شيء بات مهيأ سلفاً، تجري اللقاءات افتراضياً وتنتهي افتراضياً، دون أن يلتقيا واقعياً، بات الحب أقصر عمراً من دورة حياة فراشة.

قانون التكرار

يندر أن نصادف شخصاً لم يعرف الحب، سوى مرة واحدة في حياته، ففي الغالب يعيشه الإنسان مرتين أو أكثر، ومهما تعددت الحالات، فهناك صفة التكرار التي تحكم الحب دائماً، فكل تجربة عاشقة تشبه سابقاتها في بعض التفاصيل الأساسية، من لحظة الانجذاب إلى غاية الانفصال، هو تجربة إنسانية، لذلك من الطبيعي أن نقرأ كتباً عنه أو نشاهد أفلاماً، بغض النظر عن البيئة التي يجري فيها الحدث، فإننا نقاسم الشخصيات حالاتها، لذلك تبدو ثيمة الحب الثيمة الأكثر شيوعاً في الأدب، لأنها تتيح للقارئ تقمص الدور والانغماس مع أحاسيس الشخصيات، هذا التكرار الذي يعرفه العشاق ليس عاملاً مملاً، بقدر ما إن اللذة تتولد من التكرار، من تشابه المشاهد في ما بينها، هناك قانون واحد يحكم الحب في الوجود، وليس من الضروري أن تنتهي هذه العلاقة إلى أطفال، بل من الممكن أن تظل فقط تربط بين شخصين اثنين، في انعزالهما، في صبرهما على تحمل لذة الملل، ورغم تشابه قصص الحب فإننا في كل مرة ننجذب إليها، نعرف كيف تبدأ وإلى أين تفضي، لكننا نصر على متابعتها إلى الختام، هكذا كانت تحصل الأمور في الماضي، بينما اليوم ونحن نطالع أدباً جديداً صارت الأمور بوجه آخر.

بات الحب في شكله الحديث يفتقد إلى عنصر المفاجأة، بل هو فقط صورة منشورة، جمل مكتوبة أو منطوقة في رسالة صوتية، يولد ويكبر ويذبل في غضون ساعة، لذلك لم يعد مغرياً الحديث عنه في رواية من روايات يكتبها شبان كبروا وهم يحملون موبايلات بين أيديهم.

لقد دخلنا عصر الحب التجاري، حب يباع بالجملة أو بالتجزئة على الإنترنت، ليس حباً متشابهاً، بل في كل مرة يطرأ عليه عنصر جديد، حب قد لا يحيل إلى لقاء بين الطرفين، لن يجتمعا في زقاق خلفي، أو في قاعة شاي أو في ركن مظلم من ساحة عامة، إنما حب يقوم على تبادل سريع للكلمات، كما لو أنهما يلعبان كرة الطاولة، حب يقوم على اللغة وعلى إلغاء لغة الجسد، يسارعان في فضح كل ما يخفيانه عن الأعين في دردشاتهما الحميمية، يتحابان ويتخاصمان قبل أن يلتقيا، ما يرفع من الأدرينالين في اللحظات الأولى، ثم سرعان ما يخبو، قبل أن يرتفع مرة أخرى في حال التعثر ببروفايل شخص آخر على الإنترنت. بات الحب في شكله الحديث يفتقد إلى عنصر المفاجأة، بل هو فقط صورة منشورة، جمل مكتوبة أو منطوقة في رسالة صوتية، يولد ويكبر ويذبل في غضون ساعة، لذلك لم يعد مغرياً الحديث عنه في رواية من روايات يكتبها شبان كبروا وهم يحملون موبايلات بين أيديهم.

نهاية الشغف

يبدو أن الحب هو أكثر العلاقات التي يتعرى فيها الإنسان، أكثرها صدقاً وحرقة وألماً أيضاً، أكثر من علاقة أبوة أو صداقة، في الحب يصير الإنسان على هيئته الأصلية، يسير في رواق يهتدي بنور قلبه، يتقصى الصدق، لاسيما في الساعات أو الأيام الأولى مع من يحب، منجذباً إلى شغفه بالآخر، لكن إذا امحى ذلك الشغف لا يمكن أن نعوّل على الحب، بل يصير كلمة مجردة، وذلك ما يحصل اليوم، فحين تغيب هذه الثيمة عما يكتب هؤلاء الشباب الصاعدون، فالأمر لا يتعلق بنكرانهم للحب، ولا كونهم من المحافظين، أو من الذين غلفت عقولهم برداء الدين، بل الأمر يتعلق بخبراتهم في الحياة، أنهم وجدوا أنفسهم في عصر بوسعهم فيه اقتناء الحب جاهزاً من المحلات على الإنترنت، يتعاطونه مثلما يتعاطون «الفاست فود» يغسلون أيديهم، ثم لا يعودون إلا إذا شعروا بجوع عاطفي مرة أخرى، في الغالب لا يدوم طويلاً، قبل أن يستهلكوا وجبتهم العاشقة التالية، لذلك برأيي لم يعد من المستحسن أن نرفع سقف التوقعات ونحن نطالع هذا الأدب، لن نجد تأثيرات آنا كارينينا ولا جاين أوستن، بل سنجد أنفسنا نسير في صحراء شاسعة من خلو المشاعر، وإن حضرت العلاقة فإنما تحضر بغرض اللذة لا أكثر.

روائي جزائري – سعيد خطيبي (القدس العربي)

زر الذهاب إلى الأعلى